أحاديث الأحكام
أحاديث الأحكام مفهوم مركب من كلمتين (أحاديث الأحكام):
(أ) الأحاديث لغة: جمع على غير القياس لحديث ، وهو اسم لكل ما يتحدث به من كلام وخبر، قل أوكثر، كما فى مختار الصحاح.(1)
واصطلاحا: ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول ، أو فعل ، أو تقرير.(2)
فالقول: مثل قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى)الحديث رواه البخارى ومسلم وغيرهما.(3)
والفعل: وهو ما صدر عن النبى صلى الله عليه وسلم من أفعال ليست جبلية (خلقية)، مثل أداء الصلاء بهيئتها المعهودة، وكيفية وضوئه صلى الله عليه وسلم.
والتقرير: وهو سكوته صلى الله عليه وسلم عن إنكار فعل ، آو قول صدر من أحد من أصحابه فى حضرته آو غيبته وعلم به صلى الله عليه وسلم.
مثل قول ابن عمر (كان الرجال والنساء يتوضؤون فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإناء الواحد جميعا) أخرجه البخارى وأبو داو وغيرهما.(4)
(ب) الأحكام لغة: جمع حكم ، ويطلق على القضاء، كما فى مختار الصحاح.(5)
واصطلاحا: خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير أو الوضع.(6)
أحاديث الأحكام اصطلاحا: من تعريف الحديث والحكم يمكن استنباط معنى شرعى لمصطلح "أحاديث الأحكام" هو "ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير يتضمن خطابا شرعيا يفهم منه طلب الفعل ، أو الكف عنه ، أو جعل شئ سببا أو شرطا لشئ أو مانعا منه..".
ومثال ذلك:
1-ما روى على بن أبى طالب-كرم الله وجهه-قال (جعل النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم) يعنى فى المسح على الخفين(7) رواه مسلم(8).
2-ما روى عن صفوان بن عسال أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا على سفر أن لا ننزع خفا ثلاثة أيام ولياليهن ، إلا من جنابة ، ولكن من غائط وبول ونوم) رواه الترمزى(9).
وأحاديث الأحكام فى عرف المحدثين يطلق على تلك الكتب التى اشتملت على أحاديث الأحكام فقط ، وهى أحاديثه انتقاها مؤلفو هذه الكتب من المصنفات الحديثية الأصول ، ورتبوها على أبواب الفقه ، منها الكبير، ومنها المتوسط ، ومنها الصغير، وهى كثيرة(10) وأشهرها:
1-الأحكام الكبرى لأبى محمد عبد الحق ابن عبد الرحمن الأشبيلى ت581هـ.
2- الأحكام لعبد الغنى بن عبد الواحد المقدسى ت 600هـ.
3-الإمام فى أحاديث الأحكام لمحمد بن على ، المعروف بابن دقيق العيد ت 602هـ.
4-المنتقى فى الأحكام لعبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحرانى ت 652هـ.
5-بلوغ المرام من أدلة الأحكام للحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلانى ت 852هـ.
وقد شرحت أكثر هذه الكتب ، وطبع بعضها طبعات متعددة ، وحدها أو مع شرحها.(11)
أ.د/على مرعى
__________
الهامش:
1-مختار الصحاح ، مادة (حدث)، والمصباح المنير، ومعجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعة جى ، طبعة دار النفائس بيروت ط2 1408هـ 1998م ص177.
2-مختصر المنار لزين الدين الحلبى المكتبة الهاشمية دمشق ، ص16والقاموس القويم فى اصطلاحات الأصوليين لمحمد عثمان ، ط1 دار الحديث 1416هـ 1996م ص220.
3- صحيح البخارى كتاب بدء الوحى، وصحيح مسلم بالمقدمة.
4-صحيح البخارى، كتاب الوضوء، باب وضوء الرجل مع امرأته 1 /357 رقم (193) فتح البارى ، وسنن أبى داود ، كتاب الطهارة ، باب الوضوء بفضل وضوء المرأء 1 /62 رقم (79) توزيع محمد على السيد ط1 1969م ، والنسائى فى الصغرى ، كتاب الطهارة ، باب وضوء الرجال والنساء جميعا 1 /57 رقم (71)، ومالك فى الموطأ كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء1 /24 رقم(15).
5-مختار الصحاح مادة (حكم)، ومعجم لغة الفقهاء ص184.
6-مختصر ابن الحاجب1 /222.
7-سبل السلام للصنعانى 1 /91 طبعة دار الحديث بالأزهر.
8-صحيح مسلم 1 /232 طبعة دار إحياء التراث العربى بيروت.
9-تحفة الأحوذى بشرح جامع التزمذى لمحمد المباركفورى 1 /317 ط3 دار الفكر العربى للنشر والتوزيع 1399هـ 1979م ، وقال الترمذى حديث حسن.
10-أصول التخريج ودراسة الأسانيد د/محمود الطحان ص140 ط4 دار الكتب السلفية 1402هـ 1982م.
11-مشار لهذه الكتب فى المرجع السابق ص141
الإحسان
لغة: فعل ما هوحسن ، مع الإجادة فى الصنع (كما فى المعجم الوجيز).
شرعا: أن تعبد الله كاًنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك.
فهوفعل ما ينبغى أن يفعل من الخير فضلا ومحبة، والأفضل أن يكون ذاتيا دائما دون نقص أو انقطاع ، لأنه عمل بالفضائل ، ولأنه قربة إلى الله تعالى(3).
وجاءت مادة "حسن" فى القرآن الكريم بجميع صيغها ما يقرب من مائة وخمس وتسعين مرة منها اثنتا عشرة مرة بلفظ "إحسان" وهذا دليل على أهمية هذا المقام فى الإسلام ، حيث أمر به الله عزوجل فى مثل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}النحل:90.
ويقوم الإسلام على ثلاثة أمور، هى: الإسلام والإيمان والإحسان. فالاحسان: جزء من عقيدة المسلم ، كما دل عليه حديث جبريل وهو متفق عليه فقد سأل جبريل عليه السلام عن هذه الثلاثة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم) فسمى الثلاثه دينا ، وفى الإجابة عن الإحسان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كانك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) رواه البخارى.
وأوضحت السنة النبوية أن الإحسان كالروح يجب أن يسرى فى كل أمور المسلم.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شئ..) رواه مسلم.
والإحسان فى العبادات: يكون باستكمال شروطها وأركانها، واستيفاء سننها وآدابها مع استغراق المؤمن فى شعور قوى بأن الله عز وجل مراقبه حتى لكاًنه يراه تعالى ويشعر باًن الله تعالى مطلع عليه ، كما جاء في حديث جبريل.
والإحسان فى باب المعاملات: يكون ببر الوالدين ، من حيث طاعتهما ، وإيصال الخير إليهما ، وكف الأذى عنهما ، والدعاء والاستغفار لهما ، وإكرام صديقهما ، وإنفاذ عهدهما.
قال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} ثم ذكرت الاية ثمانية أصناف أخرى يجب لها الإحسان وهى {وبذى القربى واليتامى والمساكين والجارذى القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم}النساء:36 وكذلك ورد توجيه نبوى فى الاحسان إلى الخادم ، وذلك بإعطائه أجره قبل آن يجف عرقه ، وبعدم تكليفه ما لايطيق. فإن كان مقيما بالبيت فليأخذ حقه من الطعام والكساء، كما فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعام ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله لقمة أو لقمتين ، أو أكلة اًو أكلتين ، فإنه وَلِى علاجه)رواه البخارى.
والإحسان إلى الزوجة كذلك بعض ما أمر به الاسلام فى حسن معاملتها وإيفائها كافة حقوقها وحسن عشرتها، والاحتكام إلى أهلهما إن اختلفا، وعدم الاضرار بها بوجه من الوجوه كما ورد فما غيرآية من القرآن وفى قوله صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم). وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله واًنا خيركم لأهلى).
وهكذا يتنوع الإحسان تبعا لأحوال الاخرين: فهو للأقرب ببرهم والرحمة بهم والعطف عليهم مع الأقوال والأفعال الطيبة.
ولليتامى: بصيانة حقوقهم ، وتأديبهم ، وتربيتهم ، وعدم قهرهم.
وللمساكين: بسد جوعتهم ، وستر عورتهم ، والحث على إطعامهم ، وإبعاد الأذى والسوء عنهم.
ولأبناء السبيل: بقضاء حاجتهم ،وسد خلّتهم ، وصيانة كرامتهم وبإرشادهم وهدايتهم.
ولعامة الناس: بالتلطف فى القول ، والمجاملة فى المعاملة ، مع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ورد حقوقهم ، وكف الأذى عنهم.
والإحسان للحيوان: بإطعامه إذا جاع ،ومداواته إذا مرض ، والرفق به فى العمل ،وإراحته من التعب.
ومن الإحسان: كثرة الجود ولا سيما فى رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم و كما روى ابن عباس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان اًجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل...) رواه مسلم.
والإحسان فى العمل إنما يكون بإجادته ، وإتقان صنعته ، مع البعد عن التزوير والغش ، روى فى الحديث النبوى: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا اًن يتقنه) والإتقان إحسان الصنع.
أ.د/عبداللطيف محمد العبد
__________
مراجع الاستزادة:
1-الأخلاق فى الإسلام د/عبد اللطيف العبد، ط 5 /1998 دار الثقافة العربية القاهرة.
2-منهاج المسلم أبو بكر الجزائرى: دار الشروق بجدة 1987.
3-التعريفات الجرجانى: طبع 1938م الحلبى القاهرة.
4-المعجم الوجيز مجمع اللغة العربية: طبع 1993 وزارة التربية والتعليم القاهرة.
5-المعجم الفلسفى د/جميل صليب: ط أولى دار الكتاب اللبنانى بيروت 1971م.
6-رياض الصالحين النووى ، طبع المكتبة التوفيقية القاهرة 1983م
أحكام القرآن
لغة: جمع حكم ، وأصل مأخذه فى العربية من مادة تدوركلها حول معنى المنع ومنه حَكَمة اللجام لمنعها الدابة من الانطلاقا على خلاف مراد صاحبها، ومنه الحكمة المضادة للعبث والسفه. والأحكام بمعنى المنع من الفساد وغير ذلك (1).
واصطلاحا: خصوص ما جاء فى القرآن من الأحكام الشرعية بالمعنى الأصولى والفقهى المعروف للحكم الشرعى، والذى يتعلق بفعلٍ من مخاطبات القرآن المجيد على سبيل الطلب أو التخيير أو الوضع لأى منهما.
فقولهم على سبيل الطلب أو التخييرهو الحكم الشرعى التكليفى، وهو لدى جمهرتهم أقسام خمسة؛ لأن الطلب إما ان يكون طلبا للفعل ، أو طلبا للكف ، وكل منهما إما أن يكون جازما أو غير جازم ، فطلب الفعل إما أن يكون جازما فهو الايتاب ، وإما أن كان غير جازم فهو الندب ، وطلب الكف إن كان جازما فهو التحريم وإن كان غير جازم فهو الكراهة، وأما التخيير فهو الإباحة.
وقولهم: أو الوضع لأى منهما. يعنون به الحكم الشرعى الوضعى ، والذى هو عبارة عن جعل الشىء سببا أو شرطا أو مانعا(2).
وقد اعتنى معظم المفسرين ولاسيما أصحاب التفاسير المبسوطة منهم بهذا النوع من مقاصد القرآن العظيم كل حسب مشربه ومذهبه. بل أفرده بالتصنيف جماعة كثيرة فى القديم والحديث ، قال الزركشى فى البرهان (أولهم الشافعى ثم تلاه من أصحابنا الكيا الهراس ، ومن الحنفية أبو بكر الرازى ، ومن المالكية القاضى إسماعيل ، وبكر بن العلاء القشيرى ، وابن بكر، ومكى، وابن العربى ، ومن الحنابلة القاضى أبو يعلى الكبير(3) وقد بين علماء القرآن منهج القرآن العظيم فى سياق أحكامه وطريقتهم فى استنباطها منه ، ويتلخص الحديث عن المنهج فى نظرتين ، ومن خلالهما يتبين للقارىء بعض طرق العلماء فى الاستنباط:
إحداهمأ: أن ينظر إليه باعتبار سياقه للأحكام من حيث الجملة ، أى بقطع النظر عن طريقته فى التعبير عن كل واحد من أقسام الحكم الشرعى. وتتمثل فيما أفاد صاحب الموافقات إذ يقول: تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلى لا جزئى، فمأخذه على الكلية إما بالاعتبار أو بمعنى الأصل ، إلا ما خَصَّه الدليل مثل خصائص النبى صلى الله عليه وسلم.
ويدل على هذا المعنى بعد الاستقراء المعتبر أنه محتاج إلى كثير من البيان. فإن السنة على كثرتها وكثرة مسائلها إنما هى بيان للكتاب... وإذا كان كذلك ، فالقرآن على اختصاره جامع ، ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كليات ، لأن الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى {اليوم اًكملت لكم دينكم}المائدة:3 ، وأنت تعلم أن الصلاة والزكاة والجهاد وأشباه ذلك لم تبين جميع أحكامها فى القرآن ، إنما بينتها السنة وكذلك العديد من الأنكحة والعقود والقصاص والحدود وغيرها ، وأيضا فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهى الضروريات والحاجيات والتحسينات (4).
ومكمل كل واحد منها ، وهذا كله ظاهر أيضا ، فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو السنة والإجماع والقياس ، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن ، وقد عد الناس قوله تعالى:{لتحكم بين الناس بما اًراك الله}النساء:115. متضمنا للقياس وقوله: {وما آتاكم الرسول فخذوه}الحشر:7.
متضمنا للسنة وقوله {ويتبع غيرسبيل المومنين}النساء:115 ، متضمنا للإجماع وهذا أهم ما يكون.
وفى الصحيح (عن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشما000)(5) الخ. فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد، يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن ، فأتته ، فقالت: حديث بلغنى عنك أنك لعنت كذا وكذا فذكرته. فقال عبدالله: ومالى لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى كتاب الله ، فقالت المرأة. لقد قرات مابين لوحى المصحف فما وجدته. فقال لئن كنت قرأته لقد وجدتيه ، قال الله عز وجل {وما اتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا}الحشر:7. فعلى هذا لاينبغى فى الاستنباط من القرآن الاقتصار عليه دون النظر فى شرحه وبيانه وهو السنة ، لأنه إذا كان كليا وفيه أمور مجملة كما فى شأن الصلاة والزكاة والحج والصوم ونحوها، فلا محيص من النظر فى بيانه ، وبعد ذلك ينظر فى تفسير السلف الصالح له إن أعوزته السنة، فإنهم أعرف به من غيرهم وإلا فمطلق الفهم العربى لمن حصله يكفى فيما أعوز منه ذلك ، والله أعلم(6).
ثانيهما: أن ينظر إليه من حيث طريقته فى التناول لتفاصيل تلك الأقسام ؛ وتتمثل فى مقولة السيوطى ونقله عن العز بن عبدالسلام رحمهما الله إذ يقول: قال الغزالى وغيره: آيات الأحكام خمسمائة آية ، وقال بعضهم مائة وخمسون ، وقيل لعل مرادهم المصرح به ، فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير من الأحكام ، قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام فى كتاب الإمام فى أدلة الأحكام: معظم آى القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على أداب حسنة ، وأخلاق جميلة، ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام ومنها ، ما يؤخذ بطريق الاستنباط ، كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله {وامرأته حمالة الحطب}المسد:4.
وصحة صوم الجنب من قوله {فالآن باشروهن.... من الفجر}البقرة:187 ، واستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}الأحقاف:15 ، مع قوله: {وفصاله فى عامين}لقمان:14 ، قال: ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهو ظاهر ، وتارة بالأخبار مثل {أحل لكم}البقرة:187. و {حرمت عليكم الميتة}المائدة:3 ، و {كتب عليكم الصيام}البقرة:183 ، وتارة بمارتب فى العاجل أو الآجل من خير أو شر أو ضر ، وقد نوَّع الشارع ذلك أنواعاً كثيرة، ترغيباً لعباده وترهيبا وتقريبا إلى أفهامهم(7) ثم قسم الشيخ عز الدين ما أجمل من تلك الأنواع حسبه أقسام الحكم الشرعى، بما يطلب من مظانه هنالك.
د/إبراهيم عبدالرحمن محمد خليفة
__________
الهامش:
1- تاج العروس ، لسان العرب مادة (حكم)، والبحر المحيط للزركشى ، النسخة الكويتية 1 /117.
2- زاد بعضهم فى أقسام الحكم الوضعى جعل الشئ صحيحا أو فاسدا وزاد.. انظر تفصيل ذلك فى نهاية السول للأسنوى، والمحصول الرازى مع شرحه للقرافى، والبحر المحيط للزركشى، وغيرها.
3- البرهان فى علوم القرآن 2 /3.
4- الموافقات للشاطبى، 2 /117-122.
5- البخارى كتاب التفسير سورة الحشر باب وما آتاكم الرسول فخذوه ، وكتاب اللباس باب المستوصلة وباب المستوشمة، ومسلم كتاب اللباس والزينة باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة وغيرها.
6- الموافقات للشاطبى، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان 4 /180-183.
7- الإتقان فى علوم القرآن ، للسيوطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، 4 /40-41.
مراجع الاستزادة:
1- مسلم الثبوت ، لمحب الله بن عبدالشكور، مع شرحة فواتح الرحموت لعبد العلى ابن نظام الدين الأنصارى.
2- شرح منهاج الأصول للبيضاوى مع حواشية المسماة بسلم الوصول لشرح نهاية السول ، للشيغ بخيت المطيعى، مع العديد من كتب اللغه
البيت الحرام
هو بيت الله الذى فرض الله الحج إليه لمن استطاع إليه سبيلا وهو البيت المحرم ، والبيت العتيق ، والمسجد الحرام ، وكانت العرب تسمى كل بيت مربع كعبة، وأمر الله المسلمين أن يتخذوه قبلتهم فى صلاتهم ، وهو أول المساجد الثلاثة التى لا تشد الرحال إلا إليها:وهى المسجد الحرام ، والمسجد النبوى فى المدينة، والمسجد الأقصى.
والبيت الحرام هو أول بيت مبارك وضع للناس ليعبدوا فيه الله عز وجل ، ويهتدوا بفضله إلى الصراط المستقيم:{إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين}آل عمران:96.
وحين تأذن الله سبحانه وتعالى بأن ترفع قواعده بوأ لإبراهيم الخليل مكانه ، وأمره أن يشيده ويرفع قواعده ، ومعه ابنه إسماعيل عليهما السلام.
ووصف أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقى الكعبة التى بناها إبراهيم عليه السلام بأنها كانت بناء ذا جوانب أربعة، بارتفاع 9 أذرع وطول جداره الشرقى 32 ذراعا ،والغربى 31، والشمالى 32 ، والجنوبى 20 ،وكان بابها إلى الأرض (1)
وجعل إبراهيم عليه السلام فى جدارها الحجر الأسود علامة على بدء الطواف حولها، ثم أعيد بناء الكعبة قبل البعثة بنحوعشر سنوات ، واشترك النبى صلى الله عليه وسلم فى أعمال البناء مع أشراف قريش ورجالها ، وكان ذلك بعد حملة أبرهة الفاشلة على البيت الحرام فى سنة 570ميلادية، التى أشار إليها القرآن الكريم فى سورة الفيل.
وبعد فتح مكة مباشرة أمرالنبى صلى الله عليه وسلم بتطهير الكعبة مما فيها من تماثيل وصور وأصنام ، ولم يكن للبيت الحرام جدران تحده إلى أن قرر عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد أن ولى الخلافة أن يبنى حوله جدرانا ارتفاعها أقل من القامة، وذلك فى السنة السابعة عشر بعد الهجرة.
وأجرى عثمان بن عفان رضى الله عنه توسعة ثانية فى السنة السادسة والعشرين بعد الهجرة، ويقال إنه جعل للمسجد أروقة.
وأجريت على البيت الحرام عمائر أهمها:بناء الكعبة على يد عبد الله بن الزبيرفى العقد السابع بعد الهجرة، وإعادة بنائها على يد الحجاج بن يوسف الثقفى فى عهد عبد الملك بن مروان بعد ذلك ببضع سنواف ،وعمرت الأروقة فى عهد الوليد بن عبد الملك ، وفى عهد الخليفة العباسى المهدى بن المنصور، وفى عهد السلطان المملوكى الناصر فرج بن برقوق ، والسلطان الأشرف برسباى، وأعيد بناء الكعبة من جديد فى سنة 1040هـ فى عهد السلطان العثمانى مراد الرابع.
ونتيجة لهذه العمائر صار الحرم مستطيلا أقرب إلى التربيع ، ويحيط به من جهاته الأربع أروقة تشتمل على صفوف من الأعمدة تحمل عقودا ، وتسقف كل بلاطة تحف بها أربعة أعمدة قبة ، قاعدتها مستديرة ، وقمتها مدببة ، وتقوم الكعبة المكرمة فى وسط الحرم ، ولكن بميل إلى الجنوب وبجانبها حجر إسماعيل وحولها المطاف ، وفى شرقها بئر زمزم ، وبجوار المطاف مقام إبراهيم ،وباب الكعبة مرتفع عن الأرض ، وللمسجد خمسة وعشرون بابا ، وسبع مآذن.
وكانت الحكومة المصرية تتشرف بكسوة الكعبة المكرمة حتى قيام المملكة العربية السعودية التى أولت البيت الحرام عناية فائقة من حيث التوسعة والعمارة والتجهيز، كما قامت بعمل كسوة الكعبة الشريفة.
أ.د/حسن الباشا
__________
الهامش:
1- أخبار مكة وما جاء بها من الآثار الأرزقى.
مراجع الاستزادة:
1- دليل مكة والمدينة غلام على.
2- الرحلة النابلسية المعروفة بالحقيقة والمجاز فى رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز:عبد الغنى النابلسى.
3- مرآة الحرمين إبراهيم رفعت.
4- العمارة العربية فريد شافعى
التجويد
لغة:مصدر جوّده:أى صيرّه جيدا ، والجيد ضد الردىء(1)
واصطلاحا:إخراج كل حرف من مخرجه ،مع إعطائه حقه من الصفات اللازمة، ومستحقه من الصفات العارضة(2)، فى تلاوة القرآن الكريم.
وعلم التجويد:هو العلم الذى يعرف منه مخرج كل حرف ، وحقه من الصفات اللازمة كالجهر والاستعلاء، ومستحقه من الصفات العارضة كالتفخيم والاخفاء، ثم أقسام الوقف والابتداء، إلى غير ذلك.
وطريق تحصيله رياضة اللسان وكثرة التكرار بعد العرض والسماع بالنطق الصحيح على يد شيخ متقن لقراءة القرآن الكريم.
وحكم العمل به الوجوب العيش على كل مكلف يقرأ شيئا من القرآن ، وحكم تعليم هذا العلم الوجوبا الكفائى مادام هناك أكثرمن عارف به ، وأشهر مباحثه:مخارج الحروف وصفاتها وأحكامها.
وأشهر كتبه قديما وحديثا:الخاقانية لموسى بن عبيد الله (ت 325هـ)، والرعاية لمكى بن أبى طالب (ت 437هـ)، والتمهيد وكذا الجزرية لمحمد بن محمد بن الجزرى (ت 833هـ)، ونهاية القول المفيد لمحمد مكى نصر، من أبناء القرن الرابع عشر الهجرى.
وهداية القارئ لعبد الفتاح عجمى المرصفى (ت 1409هـ) (3) وقد كثرت الأدلة والفتاوى ونصوص العلماء على وجوبه ، ومنها:{ورتل القرآن ترتيلا}المزمل:4. فهذا أمر، والأمر للوجوب.
وفسره سيدنا على فقال:"الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ". {قرآنا عربيا غيرذى عوج}الزمر:28 ، فمن عوجه بترك تطبيق التجويد فقد ارتكب المحظور.
قرأ رجل:{إنما الصدقات للفقراء}التوبة:60 ، مرسلة، أى بدون المد الواجب ،فقال ابن مسعود:ما هكذا أقرانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرانيها:(للفقراء) فمدها.
فالإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ إلا بالتجويد، وتلقاه الصحابة عنه هكذا ومن وراءهم على ذلك جيلا فجيلا(4)
قال يعقوب (5):إن من التحريف تغيير الأوصاف من جهروهمس وتفخيم... فعلمنا أن هذا حرام ،وأن ضده وهو التجويد واجب.
وقال الشيخ حسنين مخلوف:"وقد أجمعوا على أن النقص فى كيفية القرآن وهيئته كالنقص فى ذاته ومادته ، فترك المد والغنة والتفخيم والترقيق كترك حروفه وكلماته ، ومن هنا وجب تجويد القرآن".
أ.د/عبد الغفور محمود مصطفى
__________
الهامش:
1- انظر لسان العرب والمعجم الوسيط مادة (جود).
2- نهاية القول المفيد الشيخ محمد مكى نصر:مطبعة الحلبى 1349هـ.
3- مقدمة تفسير القرطبى مطبعة دار الشعب ص13.
4- عنوان البيان للشيخ مخلوف مطبعة الحلبى ص27.
5- المدخل ص158 الطبعة الثانية سنة 1994م جى جى لطباعة الأوفست ص158
التفسير
لغة:تدور مادته حول معنى الكشف مطلقا سواء أكان هذا الكشف لغموض لفظ أم لغير ذلك ، يقال فسرت اللفظ فسرا من باب ضرب ونصر، وفسرته تفسيرا شدد للكثرة إذا كشفت مغلقه (1).
واصطلاحا:كشف معانى القرآن وبيان المراد منه ، وهو أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره ، وبحسب المعنى الظاهر وغيره ، والمقصود منه (2).
وهل يتوقف هذا الإيضاح على القطع بالمعنى المراد بأن يكون اللفظ نصا لا يحتمل إلا معنى واحدا أو الرواية الصحيحة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، أو لا يتوقف على شىء من ذلك بحيث يكفى فيه غلبة الظن بالمعنى المراد؟ الصواب هو عدم التوقف ، غاية الأمر أنه يلزم عند مجرد غلبة الظن ألا يقطع المفسر بأن المعنى الذى غلب على ظنه هومراد الله من النص. بل يقول ما يشعر بعدم الجزم كقوله:المعنى عندى والله أعلم ، وأشباه ذلك من العبارأت المشعرة بعدم القطع فيما لا قاطع فيه.
والتفسير بهذا المعنى يشمل جميع ضروبه البيان لمفردات القرآن وتراكيبه سواء تعلق البيان بشرح لغة، أم باستنباط حكم أم بتحقيق مناسبة، أو سبب نزول ، أم بدفع إشكال ورد على النص ، أو بينه وبين نص آخر أم بغير ذلك من كل ما يحتاج إليه بيان النص الكريم.
وقد عرف القول فى تفسير القرآن منذ عهد نزول القرآن ذاته ، فالقرآن يفسر بعضه بعضا. وقد يحتاج بعض الصحابة إلى بيان شىء من القرآن فيوافيهم به النبى صلى الله عليه وسلم كما فى قوله تعالى:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) النحل:44 ، ومن ثم عرف العلماء وذكروا فى تصانيفهم ألوانا شتى من تفسير القرآن للقرآن ومن تفسير السنة للقرآن.
ثم سار الصحابة فمن بعدهم على هذا المنوال من البيان لكل ما يحتاج إلى بيان من القرآن فتكونت ، المدارس المتقدمة للتفسير فى مكة والمدينة والشام ، والعراق وهلم جرا ، وحتى دونت المصنفات التى لا تكاد تحصى فى التفسير، كل على حسب مشرب صاحبه من العناية باللغة والبلاغة أو الفقه والأحكام ، أو تحقيق أمور العقيدة ومباحثه علم الكلام ، أو التصوف وأذواقا المتصوفة وإشاراتهم ، ثم من إسهاب إلى إيجاز إلى توسط فى التناول ، وهكذا صار تفسير القرآن علما قائما برأسه وضعت فيه المئات إن لم تكن الألوف من المجلدات (3).
ولتقسيم التفسير اعتبارات متعددة يختلف باختلافها ، وهذه الاعتبارات هى:
أولا: أن ننظر إلى التفسير من حيث إمكان تحصيله وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى أربعة أقسام أخرجها ابن جرير الطبرى عن طريق سفيان الثورى عن ابن عباس فيما يلى:
(أ) وجه تعرفه العرب من كلامها.
(ب) وتفسير لا يعذر أحد بجهالته.
(ج) وتفسير يعلمه العلماء.
(د) وتفسيرلا يعلمه إلا الله (4).
ثانيا: أن ينظر إلى التفسيرمن جهة استمداده من الطريق المعتاد نقلا كان من القرآن نفسه ، أو من السنة، أو من كلام الصحابة، أو التابعين ، أو كان رأيا واجتهادا.
أو من غيرهذا الطريق بأن يكون بطريق الإلهام والفيض ، فالتفسير ينقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
(أ) تفسير بالرواية، ويسمى التفسير بالمأثور.
(ب) تفسير بالدراية، ويسمى التفسير بالرأى.
(ج) تفسير بالفيض والإشارة، ويسمى التفسير الإشارى(5).
ثالثا: أن ينظر إلى التفسيرمن جهة كونه شرحا لمجرد معنى اللفظ فى اللغة، ثم لمعنى الجملة أو الآية على سبيل الإجمال ، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين:
(أ) إجمالى. (ب) تحليلى(6).
رابعا: أن ينظر إلى التفسير من جهة خصوص تناوله لموضوع ما من موضوعات القرآن الكريم ، عاما كان كالعقيدة والأحكام أو خاصا كالصلاة والوحدانية ونحوها. وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى: (أ) تفسير عام (7). (ب) تفسير موضوعى.
أ.د/ابراهيم عبد الرحمن مهمد خليفة
---------------
الهامش:
1- لسان العرب ، ابن منظور، دار صادر، ط3، بيروت مادة (فسر)، والبرهان فى علوم القرآن للزركشى 1 /147.
2- الإتقان فى علوم القرآن، للسيوطى، 4 /193.
3- مناهل العرفان ، د.محمد عبد العظيم الزرقانى، طبعة عيسى الحلبى، 1 /472.
4- تفسير الطبرى، طبعة مصطفى الحلبى، ط3، 1 /34.
مراجع الاستزادة:
1- تفسير البحر المحيط ، لأبى حيان.
2- التفسير والمفسرون ، د.محمد حسين الذهبى.
3- مفردات القرآن للراغب.
4- دراسات فى مناهج الفسرين ، د.إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة
التقليد
لغة:مصدر للفعل الرباعى "قلَّد" بتضعيف اللام المفتوحة يقال:قلد فلان فلانا الأمر أى ألزمه إياه.
كما يقال:قلد الماء فى الحوض واللين فى السقاء يقلده قندا أى جمعه فيه.
ويقال:التقليد فى الدين ، وتقليد الولاة والأعمال.. وتقلد الأمر احتمله كما فى لسان العرب (1).
واصطلاحا: يقصد به التزام حكم المقلد من غير دليل بحيث يلتزم المقلد قول المقلد شرعا فينعقد ما حرمه حراما وما أوجبه واجبا، وما أباحه مباحا من غير دليل يستدل به على شىء من ذلك اللهم إلا قول من قلده (2).
وقد عرفه الإمام الشيرازى بأنه "قبول القول من غيردليل "(3).
وعرفه إمام الحرمين بأنه "قبول قول الغير من غير حجة" (4).
وقد فسر إمام الحرمين هذا القول قائلا: "فعلى هذا قبول العامى قول المفتى تقليد. وقبول من يروى أخبار الآحاد قولا وسمعه من خلق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس تقليدا لأنه حجة فى نفسه".
وقبول قول الصحابى تقليد إن لم نجعل أقوالهم حجة، ولم نر الاحتجاج بقولهم. فإن اعتبرنا أقوالهم حجة يحتج بها فعند ذلك لا يسمى قبول أقوالهم تقليدا.
وعرف ألإمام الآمدي التقليد بأنه "العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة"(5).
وذكر الإمام الشوكاني له عدة تعريفات منها أنه "العمل بقول الغيرمن غيرحجة".
ثم اختار من بين هذه التعريفات تعريفا رآه هو الأولى وهو: "قبول رأى من لا تقوم به الحجة بلا حجة".
والتقليد نوعان(7): تقليد سائغ بل واجبا، وتقليد مرفوض مذموم.
فأما التقليد المذموم المرفوض فهو أن يكون هناك إعراض عما انزل الله وعدم التفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء، والأجداد، أو يكون فى صورة تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يأخذ بقوله أو أن يكون تقليده بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد.
ولا أدل على رفض مثل هذا التقليد وذمه من قول الله سبحانه وتعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئأ ولا يهتدون) البقرة:170.
وقوله جل وعلا: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) الزخرف:23-24.
فالتقليد الواجب المستساغ هو: تقليد من بذل جهده فى اتباع ما أنزل الله وخفى عليه بعضه فقلد فيه من هوأعلم منه فلا شك أن مثل هذا التقليد محمود غير مذموم ، ومأجور غير مأزور، والدليل على صحة مثل هذا التقليد أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وهذا تقليد منهم قطعا؛ إذ إن قولهم لا يكون
حجة فى حياة رسول صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}التوبة:122.
فقد أوجب الحق سبحانه وتعالى عليهم قبول ما أنذرهم به إذا رجعوا إليهم وهذا تقليد منهم للعلماء، وقد جاءت شريعتنا الغراء بقبول قول القائف (الذى يتتبع الآثار ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه) والخارص (اسم فاعل من خرص النخلة والكرمة إذا حز ما عليها من الرطب تمرا والعنب زبيبا) والمقوم للمتلفات وغيرها ولاشك أن هذا تقليد محض.
وجميع علماء الأمة قد صرحوا بجواز التقليد فقد قال محمد بن الحسن الشيبانى صاحب الإمام أبى حنيفة رضى الله عنه "يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ولا يجوزله تقليد من هو مثله" وقد صرح الإمام رضى الله عنه بالتقليد فقال فى مسألة بيع الحيوان بالبراءة الأصلية من العيوب:قلته تقليدا لعثمان. وهذا هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول فى مسائل الآبار وليس منه فيها، إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها وهذا هو الإمام مالك رضى الله عنه لا يخرج عن عمل أهل المدينة ويصرح فى موطئه بأنه أدرك العمل على هذا ، وهو الذى عليه أهل العلم ببلدنا، ويقول فى غيرموضع:
"ما رأيت أحدا واقتدي به يفعله ، وقد قال الإمام الشافعى -رحمه ألله- فى الصحابة: رأيهم لنا خيرمن رأينا لأنفسنا.
والحق أن مصلحة الخلق لا تقوم إلا بالتقليد وذلك عام فى كل علم وصناعة وقد فاوت الله سبحانه وتعالى بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان ، فلا يحسن فى حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله.
هذا ولا يجوز للمقلد أن يفتى فى دين الله بما يقلد فيه وليس على بصيرة منه سوى أنه قول من قلده ، وهذا بإجماع السلف كلهم وقد اشترط الإمام الغزالى -رحمه الله- فى سبيل الوصول إلى الحقائق أن يكون الباحث حر العقل مستقل التفكير، وقد ندد بكل فكر موسوم بالتبعية، والمحاكاة، وبلغ من حرصه على هذا المبدأ انه ختم كتابه فى المنطق "معيار العلم "بدعوة للقارئ إلى أن يدرسه بروح الفهم لا بروح التقليد.
أ.د/محمد عبد اللطيف جفال الدين
__________
الهامش:
1- لسان العرب لابن منظور 5 /2718.
2- كتاب الحدود ص64.
3- اللمع للشيرازى ص450 البرهان 2 /888.
4- الإحكام فى أصول الأحكام للأمدى 4 /297.
5- إرشار الفحول ص365.
6- إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية 2 /168 وما بعدها
الجلال
وردت كلمة "الجلال" فى القرآن الكريم مرتين فى سورة الرحمن ، فى قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}الرحمن:27 ، وقوله تعالى: {تبارك اسم ربك ذى الجلال والإكرام}الرحمن:78. ومعنى الجلال فى الآيتين: الملك والعظمة والقوة والعزة.
والجليل اسم من أسماء الله تعالى، ومعناه: العظيم فى ذاته وصفاته وأفعاله ، والفرق بين الجليل والكبير والعظيم -فى الأسماء الحسنى- أن اسم الكبيريرجع إلى كمال الذات ، والجليل إلى كمال الصفات ، والعظيم إلى كمال الذات والصفات معا ،وصفات التنزيه ترجع -فيما يرى المتكلمون- إلى صفة الجلال ، ويعنون بصفات التنزيه كل صفة تنفى عن الله تعالى معنى لا يليق بذاته المقدسة، كوصفه تعالى بأنه ليس جسما ولا عرضا ولامحتاجا ولا متحيزا فى جهة.
والجلال -فى اصطلاح الصوفية- هو: احتجاب الحق بحجاب العزة عن معرفة حقيقة ذاته المقدسة، فلا يرى ذاته ولا يعلمها على حقيقتها إلا هو، وليس لمخلوق أدنى نصيب فى معرفة "الجلال" أو الكلام فيه ،وسبب ذلك... فيما يقول بعض شيوخ الصوفية: أن الجلال مرتبط بالجمال ، وأن جمال الله تعالى يعلو ويدنو.
وعلو الجمال وعزته هو "الجلال" الذى يتكلم فيه العارفون ، وهم فى حقيقة الأمر إنما يتكلمون فى جلال الجمال لا "الجلال" المطلق ، "فالجلال المطلق" معنى يرجع من الله إليه وحده ، وهو مانع يمنع من رؤيته ، بخلاف "جمال الجلال" فإنه يتجلى به على عباده ،وهو مصحح لرؤيته تعالى فى الجنة، مع تنزهه عن الجهة والتحيز وتوابعهما، كما هو مذهب أهل السنة. وتجلى الجمال يوجب عند الصوفية الفناء والمحو والقهر.
أ.د/أحمد الطيب
__________
مراجع الاستزادة:
1- التعريفات للجرجانى.
2- المقصد الأسمى فى شرح أسماء الله الحسنى للإمام الغزالى. ط دار المشرق بيروت 1982م.
3- تفسير الرازى سورة الرحمن:(27-28).
4- لطائف الإعلام فى إشارات أهل الإلهام ، القاشانى ، 1 /389 ط دار الكتب المصرية.
5- كتاب الجلال والجمال لابن عربى ضمن رسائل ابن عربى، الرسالة الثانية ط حيدر آباد 1361هـ
الجمال
لغة: هو "الحسن "، واسم "الجميل" فى أصل اللغة موضوع للصورة الحسية المدركة بالعين ، أيا كان موضوع هذه الصورة من إنسان أو حيوان أو نبات او جماد. ثم نقل اسم الجميل لتوصف به المعانى التى تدرك بالبصائر لا الأبصار، فيقال: سيرة حسنة جميلة، وخلق جميل. وقد وردت كلمة جمال وصفا للأنعام فى قوله تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون}النحل:6 ، كما وردت كلمة "الجميل" فى القرآن أيضا وصفا للصبر والصفح وتسريح الزوجة والبحر. كما وردت وصفا لله تعالى فى الحديث الشريف: (إن الله جميل يحب الجمال) (صحيح الإمام مسلم ، كتاب الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه) ومعنى "جميل" فى الحديث: المنزه عن النقائص والموصوف بصفات الكمال ، أو: ذو النور والبهجة.. إلخ.. ويرجع المتكلمون صفات المعانى لله تعالى كالعلم والقدرة وما إليهما إلى صفة "الجمال".
واصطلاحا: الجمال الحقيقى -فى المفهوم الصوفى- هو: الجمال الإلهى، وهو من صفات الله الأزلية، شاهدها فى ذاته أزلا مشاهدة علمية، ثم أراد أن يشاهدها مشاهدة عينية في أفعاله ، فخلق العالم ،فكان كمرآة انعكس على صفحتها هذا الجمال الأزلى.
والجمال الإلهى -فيما يقول الصوفية- نوعان: جمال معنوى وجمال صورى. فالجمال المعنوى هو: معانى الصفات الإلهية والأسماء الحسنى. وهذا النوع لا يشهده إلا الله ، أما الجمال الصورى فهو هذا العالم الذى يترجم عن الجمال الإلهى. بقدر ما تستوعبه الطاقة البشرية. فالعالم ليس إلا مجلى من مجالى الجمال الإلهى. وهو بهذا الاعتبار حسن. وكل ما فيه جميل ، والقبح الذى يبدو فيه ليس قبحا حقيقيا، بل هو قبح بالإضافة والاعتبار لا بالأصالة. ويضربون مثلا لذلك: قبح الرائحة المنتنة التى ينفر منها الإنسان ، ويتلذذ بها الحيوان ، والنار التى تكون قبيحة لمن يحترق فيها، لكنها فى غاية الحسن لمن لا يحترق بها مثل طائر "السمندل" الذى يتلذذ بالمكث فى النار. فيما يقولون.
وإذا كان المعتزلة يرون أن الحسن والقبح وصفان ذاتيان فى الأشياء، ويرى الأشاعرة أن الأشياء فى أنفسها قبل ورود الشرع لا توصف بحسن ولا قبح فإن الصوفية يؤكدون على أن "الحسن" وصف أصيل فى كل ما خلق الله تعالى. ولتجلى الجمال "انبهار" يقهر عقل السالك إلى درجة "الهيمان "، فإن بقى فى هيمانه سمى "مولها "، والمؤيدون من السالكين معصومون فى تجلى الجمال من الهيمان ،قإذا سكروا صحوا عن قريب ، وهؤلاء يسمون "بالممكنين" ، وأهل "التأييد"، وأهل "التمكين" أرفع درجات من المهيمين. ويستدل الصوفية على أحوالهم فى تجلى الجمال بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الشريف: (وشوقا إلى لقائك من نكير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) (مسند الإمام أحمد، 5/ 191)، ويفسرون "الضراء المضرة" فى الحديث بذهاب العقل ، و"الفتنة المضلة" بانحلال قيود العلم المؤدية إلى الزندقة.
وتجلى الجمال من منازل القلب ، وليس من أخلاق النفس ، وهو -بهذا الاعتبار- من "الأصول" ، التى يتبنى عليها السلوك.
أ.د/أحمد الطيب
__________
مراجع الاستزادة:
1- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبى العباس القرطبى" 1 /288، دار ابن كثير ، بيروت ، 1417هـ-1996م.
2- الفتوحات المكية لابن عربى تحقيق عثمان يحيى، 13:221 0 القاهرة 1990م.
3- المقصد الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى للإمام الغزالى، دار الشروق ، بيروت 1982م.
4- التصوف -الثورة الروحية فى الإسلام- أبو العلا عفيفى، دار المعارف ، مصر 1963م.
5- حياة الحيوان الكبرى للدميرى
Tidak ada komentar:
Posting Komentar